هناك شعور غريب يلاحقني طوال الوقت،لحظة متكررة في حياتي....أجلس أمام شاشة الحاسوب، يدي قريبة من لوحة المفاتيح، والأفكار تتدفق، تتزاحم، تتصادم، ثم تختفي.
أشعر أن لدي الكثير لأقوله، الكثير لأكتبه، الكثير لأعيشه وأحققه… لكني لا أبدأ. أنا مدركة تمامًا لإمكاناتي ومواهبي، لكني لا أفعل شيئًا، أو أترك الأمور عالقة في المنتصف.كأن كثرة الإمكانيات تُشلني. كأنني أخاف أن أختار شيئًا واحدًا، فيضيع مني كل ما تبقى.
تُذكرني هذه الحالة التي أعيشها باقتباس سيلفيا بلاث الذي لا يفارقني من روايتها الشهيرة The Bell Jar :
"رأيت حياتي تتفرع أمامي مثل شجرة التين الخضراء… كانت إحدى تلك التينات تمثل زوجًا ومنزلًا سعيدًا وأطفالًا، وتينة أخرى تمثل شاعرة مشهورة، وتينة ثالثة أستاذة لامعة، ورابعة محررة مذهلة، وخامسة تمثل أوروبا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية... وفوق وتحت وبين كل تلك التينات، كانت هناك تينات أخرى كثيرة لم أستطع تمييزها تمامًا...رأيت نفسي جالسة عند مفترق تلك الشجرة، أتضور جوعًا حتى الموت، فقط لأني لم أستطع أن أقرر أي تينة أختار. كنت أرغب في كل واحدة منهن، لكن اختيار واحدة كان يعني خسارة البقية كلها".
وأشعر أنني مثلها تمامًا…
تلك الفتاة التي بقيت تحدق في الشجرة حتى ذبلت كل التينات.
أدرك الآن أن كثرة الإمكانات ليست دائمًا نعمة، بل قد تكون، في بعض الحالات مثلي، لعنة صغيرة… أنيقة في ظاهرها، لكنها مربكة ومرهقة حتى الأعماق.
كما أن درايتي ووعيي بهذا الشيء لا يساعداني كثيرًا أيضًا على إيجاد حل للأزمة الوجودية التي أعيشها.أشعر أحيانًا أن قدراتي و امكاناتي نفسها تحولت إلى مطرقة تدقّ ظهري بلاتوقف.
أظنني الآن أصبحت أفهم نيتشه بشكل أفضل…
أعيش هذه الحالة تمامًا كما وصفها عندما تحدّث عن “ثقل الإمكانيات” وعبء "الاختيار الحر". فهو من رأى أن الإنسان، حين يُترك في مواجهة حريته المطلقة، يتألم… لأن عليه أن يكون خالقًا لنفسه، لا تابعًا، وأن يختار مساره دون ضمان، وأن يتحمّل مسؤولية ذلك الاختيار بكل ما فيه من فقدان واحتمالات ضائعة. وهكذا، بدلًا من أن تكون كثرة الخيارات مصدر أمل، تتحول إلى حيرة وجودية تُنهك روحي وتستنزف بصمت قاتل كل ما في داخلي.
شاهدت مؤخرًا فيلم "نساء صغيرات" للمرة الثانية، وجلست بعدها طويلًا مأخوذة مرة أخرى أيضا بجو مارش، بتلك الطاقة المتفجرة بين رغبتها في أن تكون شيئًا، كل شيء، وخوفها من ألا تكون شيئًا على الإطلاق. جو مارش ليست مجرد كاتبة متمردة، بل هي روح قلقة تسابق الزمن قبل أن يُقال لها: "لقد تأخرتِ". هي تريد الحب، لكنها لا تريد أن يُعرِّفَها. تريد أن تكتب، لكنها تخاف ألا يُقرأ لها. تريد أن تعيش بشروطها، لكن العالم لا يعترف بها إلا إذا خضعت.
في كل مرة كانت جو تجادل، تصرخ، وتهرب، كنت أرى نفسي فيها. وأحيانًا، يُخيفني ذلك التشابه... لأنني أملك تمردها، لكنني أبقى هنا، عالقة في المنتصف، مترددة.
ثم تذكرتُ سمر...
كنتُ في بداية العشرينات فقط، حين شاهدتُ فيلم 500Days of Summer لأول مرة. ظننتُ آنذاك أن سمر قاسية، لا تُطاق، مترددة و مؤذية. لكنني كبرتُ وفهمت... بعد منتصف العشرينات، بدأتُ أتعاطف معها أكثر، وأدركتُ أنني ربما لم أفهمها جيدًا في ذلك الوقت. هي لم تكن قاسية، بل كانت تائهة؛ تبحث عن نفسها في عالمٍ يُطالبنا بأن نكون متأكدين، جاهزين، وواضحين.
كم مرة شعرتُ فيها أنني لا أريد الالتزام بشيء... لا حب، لا وظيفة، ولا حتى فكرة واحدة فقط. ليس لأنني لا أريد، بل لأنني ما زلتُ لا أعرف "من أنا" بما يكفي لأختار.
في كثير من الأحيان، أشعر أنني محاصَرة داخل عقلي، في قفصٍ صنعته مخاوفي…ماذا لو ندمت؟ ماذا لو أخطأت؟ ماذا لو كان هناك خيار أفضل لم أره؟
رأيتُني في جولي أيضًا، تلك الفتاة التي تهرب من كل شيء بينما تبحث عن كل شيء، من فيلمthe worst person in the world.لم أشاهد الفيلم ، بل شعرتُ وكأنه يشاهدني؛ ينظر داخلي ، ثم يفتح نافذةً صغيرة ليطل عليها كل من يحدق في الشاشة، ليُريهم الأشياء التي أخفيها عن الجميع، حتى عن نفسي… كل لحظة تردّد، كل علاقاتي مع البشر التي بدأت وانتهت قبل أن أفهم لماذا، كل حلم تغيّر أو اختفى أو عاد بشكلٍ مختلف.
البطلة ليست "أسوأ شخص في العالم"، بل شخص عادي يحاول أن يجد نفسه وسط ضوضاء هذا العالم...
كانت جولي تُغيّر جلدها في كل مرحلة… تبدأ ثم تتراجع، تُحب ثم تهرب، تعمل ثم تترك، تكتشف ثم تنسى…وأنا كذلك.
بين جو مارش، وسمر، وجولي… رأيت نفسي دائما؛ وانعكست أسئلتي كلها.
أحيانًا أفكّر…هل الحل أن أختار شيئًا واحدًا فقط وألتزم به؟ وأحيانًا أخرى، أعتقد أنني فقط أحتاج إلى أن أسامح نفسي على هذا التشتّت، وأن أراه جزءًا منّي، لا عيبًا فيّ.
ربما لن أختار اليوم أيضًا، وربما سأختار ثم أندم، ثم أُغيّر رأيي... ثم أبدأ من جديد. لكن ما بدأتُ أؤمن به هو أن هذا التشتت ليس سيئًا تمامًا كما أظن. ربما هو طريقتي في مقاومة القوالب الجاهزة. ربما هو طريقتي في اكتشاف نفسي.
اليوم سأكتب هذا النص حتى لو لم يكن مثاليًا. سأبدأ حتى لو لم أكن واثقة من النهاية، فربما، فقط ربما، أكون شيئًا في هذا اللاشيء. سأفتحه على Substack وأضغط "نشر" حتى لو ترددت. لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن أبقى هناك، أمام شجرة التين، أحدق وأخسرها كلها.
كلمات جميلة من انثي أجمل ، لكي كل الحب 💗